سورة غافر - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (غافر)


        


ثمّ كرّر ذلك الرجل المؤمن تذكيرهم، وحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم، فقال الله حاكياً عنه: {وَقَالَ الذى ءامَنَ ياقوم إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ مّثْلَ يَوْمِ الاحزاب} أي: مثل يوم عذاب الأمم الماضية الذين تحزبوا على أنبيائهم. وأفرد اليوم؛ لأن جمع الأحزاب قد أغنى عن جمعه، ثم فسر الأحزاب، فقال: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ} أي: مثل حالهم في العذاب، أو مثل عادتهم في الإقامة على التكذيب، أو مثل جزاء ما كانوا عليه من الكفر، والتكذيب {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ} أي: لا يعذبهم بغير ذنب، ونفي الإرادة للظلم يستلزم نفي الظلم بفحوى الخطاب. ثم زاد في الوعظ، والتذكير، فقال: {وياقوم إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد} قرأ الجمهور: {التناد} بتخفيف الدال، وحذف الياء. والأصل التنادي، وهو: التفاعل من النداء، يقال: تنادى القوم، أي: نادى بعضهم بعضاً، وقرأ الحسن، وابن السميفع، ويعقوب، وابن كثير، ومجاهد بإثبات الياء على الأصل، وقرأ ابن عباس، والضحاك، وعكرمة بتشديد الدال. قال بعض أهل اللغة: هو: لحن، لأنه من ندّ يندّ: إذا مرّ على وجهه هارباً. قال النحاس: وهذا غلط، والقراءة حسنة على معنى التنافي. قال الضحاك: في معناه: أنهم إذا سمعوا بزفير جهنم ندّوا هرباً، فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلا وجدوا صفوفاً من الملائكة، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله: {يَوْمَ التناد}، وعلى قراءة الجمهور المعنى: يوم ينادي بعضهم بعضاً، أو ينادي أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة أهل النار، أو ينادى فيه بسعادة السعداء، وشقاوة الأشقياء، أو يوم ينادي فيه كلّ أناس بإمامهم، ولا مانع من الحمل على جميع هذه المعاني، وقوله: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} بدل من يوم التناد، أي: منصرفين عن الموقف إلى النار، أو فارّين منها. قال قتادة، ومقاتل: المعنى: إلى النار بعد الحساب، وجملة {مَا لَكُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} في محل نصب على الحال، أي: ما لكم من يعصمكم من عذاب الله، ويمنعكم منه {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يهديه إلى طريق الرشاد.
ثم زاد في وعظهم، وتذكيرهم، فقال: {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات} أي: يوسف بن يعقوب، والمعنى: أن يوسف بن يعقوب جاءهم بالمعجزات، والآيات الواضحات من قبل مجيء موسى إليهم، أي: جاء إلى آبائكم، فجعل المجيء إلى الآباء مجيئاً إلى الأبناء. وقيل: المراد بيوسف هنا: يوسف بن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب، وكان أقام فيهم نبياً عشرين سنة.
وحكى النقاش، عن الضحاك: أن الله بعث إليهم رسولاً من الجنّ يقال له: يوسف، والأوّل أولى.
وقد قيل: إن فرعون موسى أدرك أيام يوسف بن يعقوب لطول عمره {فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكّ مّمَّا جَاءكُمْ بِهِ} من البينات، ولم تؤمنوا به {حتى إِذَا هَلَكَ} يوسف {قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً}، فكفروا به في حياته، وكفروا بمن بعده من الرسل بعد موته {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} أي: مثل ذلك الضلال الواضح يضلّ الله من هو مسرف في معاصي الله مستكثر منها مرتاب في دين الله شاكّ في وحدانيته، ووعده، ووعيده.
والموصول في قوله: {الذين يجادلون فِى ءايات الله} بدل من {من} والجمع باعتبار معناها، أو بيان لها، أو صفة، أو في محل نصب بإضمار أعني، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين، أو مبتدأ، وخبره يطبع، و{بِغَيْرِ سلطان} متعلق بيجادلون، أي: يجادلون في آيات الله بغير حجة واضحة، و{ءاتاهم} صفة لسلطان {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله وَعِندَ الذين ءامَنُواْ} يحتمل أن يراد به التعجب، وأن يراد به الذمّ كبئس، وفاعل كبر ضمير يعود إلى الجدال المفهوم من يجادلون. وقيل: فاعله ضمير يعود إلى من في {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ}، والأوّل أولى. وقوله: {عَندَ الله} متعلق بكبر، وكذلك {عِندَ الذين آمَنُواْ} قيل: هذا من كلام الرجل المؤمن. وقيل: ابتداء كلام من الله سبحانه: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ} أي: كما طبع على قلوب هؤلاء المجادلين، فكذلك يطبع أي: يختم على كلّ قلب متكبر جبار. قرأ الجمهور بإضافة قلب إلى متكبر، واختار هذه القراءة أبو حاتم، وأبو عبيد، وفي الكلام حذف، وتقديره: كذلك يطبع الله على كلّ قلب كل متكبر، فحذف كلّ الثانية لدلالة الأولى عليها، والمعنى: أنه سبحانه يطبع على قلوب جميع المتكبرين الجبارين، وقرأ أبو عمرو، وابن محيصن، وابن ذكوان عن أهل الشام بتنوين قلب على أن متكبر صفة له، فيكون القلب مراداً به الجملة، لأن القلب هو: محل التكبر، وسائر الأعضاء تبع له في ذلك، وقرأ ابن مسعود على قلب كلّ متكبر.
ثم لما سمع فرعون هذا رجع إلى تكبره، وتجبره معرضاً عن الموعظة نافراً من قبولها، وقال: {ياهامان ابن لِى صَرْحاً} أي: قصراً مشيداً كما تقدّم بيان تفسيره {لَّعَلّى أَبْلُغُ الأسباب} أي: الطرق. قال قتادة، والزهري، والسدّي، والأخفش: هي: الأبواب. وقوله: {أسباب السموات} بيان للأسباب، لأن الشيء إذا أبهم، ثم فسر كان أوقع في النفوس، وأنشد الأخفش عند تفسيره للآية بيت زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه *** ولو رام أسباب السماء بسلم
وقيل: أسباب السماوات: الأمور التي يستمسك بها {فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى} قرأ الجمهور بالرفع عطفاً على أبلغ، فهو على هذا داخل في حيز الترجي.
وقرأ الأعرج، والسلمي، وعيسى بن عمر، وحفص بالنصب على جواب الأمر في قوله: {ابن لِى}، أو على جواب الترجي كما قال أبو عبيد، وغيره. قال النحاس: ومعنى النصب خلاف معنى الرفع، لأن معنى النصب: متى بلغت الأسباب اطلعت، ومعنى الرفع: لعلي أبلغ الأسباب، ولعلي أطلع بعد ذلك، وفي هذا دليل على أن فرعون كان بمكان من الجهل عظيم، وبمنزلة من فهم حقائق الأشياء سافلة جدًّا {وَإِنّى لأَظُنُّهُ كاذبا} أي: وإني لأظنّ موسى كاذباً في ادعائه بأن له إلاهاً، أو فيما يدّعيه من الرسالة {وكذلك زُيّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوء عَمَلِهِ} أي: ومثل ذلك التزيين زين الشيطان لفرعون سوء عمله من الشرك، والتكذيب فتمادى في الغيّ، واستمرّ على الطغيان {وَصُدَّ عَنِ السبيل} أي: سبيل الرشاد. قرأ الجمهور: {وصد} بفتح الصاد، والدال، أي: صدّ فرعون الناس عن السبيل، وقرأ الكوفيون: {وصد} بضم الصاد مبنياً للمفعول، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم، ولعلّ وجه الاختيار لها منهما كونها مطابقة لما أجمعوا عليه في زين من البناء للمفعول، وقرأ يحيى بن وثاب، وعلقمة: {صد} بكسر الصاد، وقرأ ابن أبي إسحاق، وعبد الرحمن بن أبي بكرة بفتح الصاد، وضمّ الدال منوّناً على أنه مصدر معطوف على سوء عمله أي: زين له الشيطان سوء العمل، والصدّ {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى تَبَابٍ} التباب: الخسار، والهلاك، ومنه {تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ} [المسد: 1]، ثم إن ذلك الرجل المؤمن أعاد التذكير، والتحذير كما حكى الله عنه بقوله: {وَقَالَ الذى ءامَنَ ياقوم اتبعون أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد} أي: اقتدوا بي في الدين أهدكم طريق الرشاد، وهو: الجنة. وقيل: هذا من قول موسى، والأوّل أولى. وقرأ معاذ بن جبل: {الرشاد} بتشديد الشين كما تقدّم قريباً في قول فرعون، ووقع في المصحف {اتبعون} بدون ياء، وكذلك قرأ أبو عمرو، ونافع بحذفها في الوقف، وإثباتها في الوصل، وقرأ يعقوب، وابن كثير بإثباتها وصلا، ووقفا، وقرأ الباقون بحذفها وصلا، ووقفا، فمن أثبتها فعلى ما هو الأصل، ومن حذفها، فلكونها حذفت في المصحف {ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا مَتَاعٌ} يتمتع بها أياماً، ثم تنقطع، وتزول {وَإِنَّ الأخرة هِىَ دَارُ القرار} أي: الاستقرار لكونها دائمة لا تنقطع، ومستمرّة لا تزول {مَنْ عَمِلَ سَيّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا} أي: من عمل في دار الدنيا معصية من المعاصي كائنة ما كانت، فلا يجزى إلا مثلها، ولا يعذب إلا بقدرها، والظاهر شمول الآية لكل ما يطلق عليه اسم السيئة. وقيل: هي خاصة بالشرك، ولا وجه لذلك {وَمَنْ عَمِلَ صالحا مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي: من عمل عملاً صالحاً مع كونه مؤمناً بالله، وبما جاءت به رسله {فَأُوْلَئِكَ} الذين جمعوا بين العمل الصالح، والإيمان {يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: بغير تقدير، ومحاسبة.
قال مقاتل: يقول: لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنة من الخير. وقيل: العمل الصالح، هو: لا إله إلا الله. قرأ الجمهور: {يدخلون} بفتح التحتية مبنياً للفاعل. وقرأ ابن كثير، وابن محيصن، وأبو عمرو، ويعقوب، وأبو بكر عن عاصم بضمها مبنياً للمفعول.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس {مِثْلَ دَأْبِ} قال: مثل حال.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} قال: هم الأحزاب: قوم نوح، وعاد، وثمود.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات} قال: رؤيا يوسف، وفي قوله: {الذين يجادلون فِى ءايات الله} قال: يهود.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إِلاَّ فِى تَبَابٍ} قال: خسران.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا} قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة.
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الحياة الدنيا متاع، وليس من متاعها شيء أفضل من المرأة الصالحة، التي إذا نظرت إليها سرّتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها، ومالها».


كرّر ذلك الرجل المؤمن دعاءهم إلى الله، وصرّح بإيمانه، ولم يسلك المسالك المتقدّمة من إيهامه لهم أنه منهم، وأنه إنما تصدّى التذكير كراهة أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى كما يقوله الرجل المحبّ لقومه من التحذير عن الوقوع فيما يخاف عليهم الوقوع فيه، فقال: {وياقوم مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وَتَدْعُونَنِى إِلَى النار} أي: أخبروني عنكم كيف هذه الحال: أدعوكم إلى النجاة من النار، ودخول الجنة بالإيمان بالله، وإجابة رسله، وتدعونني إلى النار بما تريدونه مني من الشرك. قيل: معنى {مَا لِى أَدْعُوكُمْ}: ما لكم أدعوكم؟ كما تقول: ما لي أراك حزيناً، أي: ما لك. ثم فسر الدعوتين، فقال: {تَدْعُونَنِى لأَكْفُرَ بالله وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ}، فقوله: تدعونني بدل من تدعونني الأولى، أو بيان لها {مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ} أي: ما لا علم لي بكونه شريكاً لله {وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى العزيز الغفار} أي: إلى العزيز في انتقامه ممن كفر {الغفار} لذنب من آمن به.
{لاَ جَرَمَ} قد تقدّم تفسير هذا في سورة هود، وجرم فعل ماض بمعنى: حقّ، ولا الداخلة عليه لنفي ما ادّعوه، وردّ ما زعموه، وفاعل هذا الفعل هو: قوله: {أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدنيا وَلاَ فِى الأخرة} أي: حقّ، ووجب بطلان دعوته. قال الزجاج: معناه: ليس له استجابة دعوة تنفع. وقيل: ليس له دعوة توجب له الألوهية في الدنيا، ولا في الآخرة.
وقال الكلبي: ليس له شفاعة {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى الله} أي: مرجعنا، ومصيرنا إليه بالموت أوّلاً، وبالبعث آخراً، فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير، وشرّ {وَأَنَّ المسرفين هُمْ أصحاب النار} أي: المستكثرين من معاصي الله. قال قتادة، وابن سيرين: يعني: المشركين.
وقال مجاهد، والشعبي: هم السفهاء السفاكون للدّماء بغير حقها.
وقال عكرمة: الجبارون، والمتكبرون. وقيل: هم الذين تعدّوا حدود الله، {وأن} في الموضعين عطف على {أن} في قوله: {أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ}، والمعنى: وحقّ أن مردّنا إلى الله، وحقّ أن المسرفين إلخ {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} إذا نزل بكم العذاب، وتعلمون أني قد بالغت في نصحكم، وتذكيركم، وفي هذا الإبهام من التخويف، والتهديد ما لا يخفى {وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى الله} أي: أتوكل عليه، وأسلم أمري إليه. قيل: إنه قال هذا لما أرادوا الإيقاع به. قال مقاتل: هرب هذا المؤمن إلى الجبل، فلم يقدروا عليه. وقيل: القائل هو: موسى، والأوّل أولى.
{فَوقَاهُ الله سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ} أي: وقاه الله ما أرادوا به من المكر السيّئ، وما أرادوه به من الشرّ.
قال قتادة: نجاه الله مع بني إسرائيل {وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ سُوء العذاب} أي: أحاط بهم، ونزل عليهم سوء العذاب. قال الكسائي: يقال: حاق يحيق حيقاً، وحيوقاً: إذا نزل، ولزم. قال الكلبي: غرقوا في البحر، ودخلوا النار، والمراد بآل فرعون: فرعون، وقومه، وترك التصريح به للاستغناء بذكرهم عن ذكره لكونه أولى بذلك منهم، أو المراد بآل فرعون فرعون نفسه. والأوّل أولى؛ لأنهم قد عذبوا في الدنيا جميعاً بالغرق، وسيعذبون في الآخرة بالنار، ثم بيّن سبحانه ما أجمله من سوء العذاب، فقال: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً}، فارتفاع النار على أنها بدل من سوء العذاب. وقيل: على أنها خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ، وخبره يعرضون، والأوّل أولى، ورجحه الزجاج، وعلى الوجهين الأخيرين تكون الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر. وقرئ بالنصب على تقدير فعل يفسره يعرضون من حيث المعنى، أي: يصلون النار يعرضون عليها، أو على الاختصاص، وأجاز الفرّاء الخفض على البدل من العذاب.
وذهب الجمهور أن هذا العرض هو في البرزخ. وقيل: هو في الآخرة. قال الفرّاء: ويكون في الآية تقديم، وتأخير، أي: أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب النار يعرضون عليها غدوًّا، وعشيا، ولا ملجئ إلى هذا التكلف، فإن قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أَدْخِلُواْ ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} يدل دلالة واضحة على أن ذلك العرض هو في البرزخ، وقوله: {أَدْخِلُواْ} هو بتقدير القول، أي: يقال للملائكة: أدخلوا آل فرعون، و{أَشَدَّ العذاب} هو: عذاب النار. قرأ حمزة، والكسائي، ونافع، وحفض: {أدخلوا} بفتح الهمزة، وكسر الخاء، وهو على تقدير القول كما ذكر. وقرأ الباقون: {ادخلوا} بهمزة وصل من دخل يدخل أمراً لآل فرعون بالدخول بتقدير حرف النداء، أي: ادخلوا يا آل فرعون أشدّ العذاب.
{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِى النار} الظرف منصوب بإضمار اذكر. والمعنى: اذكر لقومك وقت تخاصمهم في النار، ثم بيّن سبحانه هذا التخاصم، فقال: {فَيَقُولُ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا} عن الانقياد للأنبياء، والاتباع لهم، وهم: رؤساء الكفر {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} جمع لتابع، كخدم، وخادم، أو مصدر واقع موقع اسم الفاعل، أي: تابعين، أو على حذف مضاف، أي: ذوي تبع. قال البصريون: التبع يكون واحداً، ويكون جمعاً.
وقال الكوفيون: هو جمع لا واحد له {فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مّنَ النار} أي: هل تدفعون عنا نصيباً منها، أو تحملونه معنا، وانتصاب {نصيباً} بفعل مقدّر يدل عليه مغنون، أي: هل تدفعون عنا نصيباً، أو تمنعون على تضمينه معنى حاملين، أي: هل أنتم حاملون معنا نصيباً، أو على المصدرية. {قَالَ الذين استكبروا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} هذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر، والمعنى: إنا نحن، وأنتم جميعاً في جهنم، فكيف تغني عنكم. قرأ الجمهور: {كلّ} بالرّفع على الابتداء، وخبره: {فِيهَا} والجملة خبر إن، قاله الأخفش.
وقرأ ابن السميفع، وعيسى بن عمر: {كلا} بالنصب. قال الكسائي، والفراء على التأكيد لاسم إن بمعنى: كلنا، وتنوينه عوض عن المضاف إليه. وقيل: على الحال، ورجحه ابن مالك {إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد} أي: قضى بينهم بأن فريقاً في الجنة، وفريقاً في السعير.
{وَقَالَ الذين فِى النار} من الأمم الكافرة، مستكبرهم، وضعيفهم {لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} جمع خازن، وهو القوّام بتعذيب أهل النار {ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفّفْ عَنَّا يَوْماً مّنَ العذاب} يوماً ظرف؛ ليخفف، ومفعول يخفف محذوف، أي: يخفف عنا شيئاً من العذاب مقدار يوم، أو في يوم، وجملة {قَالُواْ أَوَلَمْ تَك تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بالبينات} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، والاستفهام للتوبيخ، والتقريع {قَالُواْ بلى} أي: أتونا بها، فكذبناهم، ولم نؤمن بهم، ولا بما جاءوا به من الحجج الواضحة، فلما اعترفوا {قَالُواْ} أي: قال لهم الملائكة الذين هم: خزنة جهنم {فادعوا} أي: إذا كان الأمر كذلك، فادعوا أنتم، فإنا لا ندعو لمن كفر بالله، وكذّب رسله بعد مجيئهم بالحجج الواضحة. ثم أخبروهم: بأن دعاءهم لا يفيد شيئاً، فقالوا: {وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ فِى ضلال} أي: في ضياع، وبطلان، وخسار، وتبار، وجملة: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءامَنُواْ} مستأنفة من جهته سبحانه، أي: نجعلهم الغالبين لأعدائهم القاهرين لهم، والموصول في محل نصب عطفاً على رسلنا، أي: لننصر رسلنا، وننصر الذين آمنوا معهم {فِي الحياة الدنيا} بما عوّدهم الله من الانتقام منهم بالقتل، والسلب، والأسر، والقهر {وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد}، وهو: يوم القيامة. قال زيد بن أسلم: الأشهاد هم: الملائكة، والنبيون.
وقال مجاهد، والسدّي: الأشهاد الملائكة تشهد للأنبياء بالإبلاغ، وعلى الأمم بالتكذيب. قال الزجاج: الأشهاد جمع شاهد مثل صاحب، وأصحاب. قال النحاس: ليس باب فاعل أن يجمع على أفعال، ولا يقاس عليه، ولكن ما جاء منه مسموعاً أدّى على ما يسمع، فهو على هذا جمع شهيد، مثل شريف، وأشراف، ومعنى نصرهم يوم يقوم الأشهاد: أن الله يجازيهم بأعمالهم، فيدخلهم الجنة، ويكرمهم بكراماته، ويجازي الكفار بأعمالهم، فيلعنهم، ويدخلهم النار، وهو معنى قوله: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللعنة} أي: البعد عن الرّحمة {وَلَهُمْ سُوء الدار} أي: النار، ويوم بدل من يوم يقوم الأشهاد، وإنما لم تنفعهم المعذرة؛ لأنها معذرة باطلة، وتعلة داحضة، وشبهة زائغة. قرأ الجمهور: {تنفع} بالفوقية. وقرأ نافع، والكوفيون بالتحتية، والكل جائز في اللغة.
وقد أخرج البخاريّ في تاريخه، وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله: {وَأَنَّ المسرفين هُمْ أصحاب النار} قال: السفاكين للدّماء بغير حقها.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة، والعشيّ، إن كان من أهل الجنة، فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، فمن أهل النار، يقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة» زاد ابن مردويه: «ثم قرأ: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً}».
وأخرج البزار، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحسن محسن مسلم، أو كافر إلا أثابه الله» قلنا: يا رسول الله ما إثابة الكافر؟ قال: «المال، والولد، والصحة، وأشباه ذلك» قلنا: وما إثابته في الآخرة؟ قال: «عذاباً دون العذاب» وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أدخلوا آل فرعون العذاب}.
وأخرج أحمد، والترمذي وحسنه، وابن أبي الدنيا، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ردّ عن عرض أخيه ردّ الله عن وجهه نار جهنم يوم القيامة، ثم تلا {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءامَنُواْ}».
وأخرج ابن مردويه من حديث أبي هريرة مثله.


قوله: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الهدى} هذا من جملة ما قصه الله سبحانه قريباً من نصره لرسله، أي: آتيناه التوراة، والنبوّة، كما في قوله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44] قال مقاتل: الهدى من الضلالة يعني: التوراة {وَأَوْرَثْنَا بَنِى إسراءيل الكتاب * هُدًى وذكرى لأُوْلِى الالباب} المراد بالكتاب: التوراة، ومعنى {أورثنا}: أن الله سبحانه لما أنزل التوراة على موسى بقيت بعده فيهم، وتوارثوها خلفاً عن سلف. وقيل: المراد بالكتاب: سائر الكتب المنزلة على أنبياء بني إسرائيل بعد موت موسى، وهدى، وذكرى في محل نصب على أنهما مفعول لأجله، أي: لأجل الهدى، والذكر، أو على أنهما مصدران في موضع الحال، أي: هادياً ومذكراً، والمراد بأولي الألباب: أهل العقول السليمة. ثم أمر الله، رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على الأذى، فقال: {فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} أي: اصبر على أذى المشركين كما صبر من قبلك من الرسل إن وعد الله الذي وعد به رسله حقّ لا خلف فيه، ولا شك في وقوعه كما في قوله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا}، وقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171 173] قال الكلبي: نسخ هذا بآية السيف.
ثم أمره سبحانه بالاستغفار لذنبه، فقال: {واستغفر لِذَنبِكَ} قيل: المراد ذنب أمتك، فهو على حذف مضاف. وقيل: المراد الصغائر عند من يجوّزها على الأنبياء. وقيل: هو مجرد تعبد له بالاستغفار لزيادة الثواب، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بالعشى والإبكار} أي: دم على تنزيه الله ملتبساً بحمده. وقيل: المراد صلّ في الوقتين صلاة العصر، وصلاة الفجر. قاله الحسن، وقتادة. وقيل: هما صلاتان ركعتان غدوة، وركعتان عشية، وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس {إِنَّ الذين يجادلون فِى ءايات الله بِغَيْرِ سلطان أتاهم} أي: بغير حجة ظاهرة واضحة جاءتهم من جهة الله سبحانه: {إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ} أي: ما في قلوبهم إلا تكبراً عن الحق يحملهم على تكذيبك، وجملة: {مَّا هُم ببالغيه} صفة لكبر قال الزجاج: المعنى: ما في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغي إرادتهم فيه، فجعله على حذف المضاف.
وقال غيره: ما هم ببالغي الكبر.
وقال ابن قتيبة: المعنى: إن في صدورهم إلا كبر، أي: تكبر على محمد صلى الله عليه وسلم، وطمع أن يغلبوه، وما هم ببالغي ذلك. وقيل: المراد بالكبر: الأمر الكبير، أي: يطلبون النبوّة، أو يطلبون أمراً كبيراً يصلون به إليك من القتل، ونحوه، ولا يبلغون ذلك.
وقال مجاهد: معناه: في صدورهم عظمة ما هم ببالغيها.
والمراد بهذه الآية: المشركون. وقيل: اليهود كما سيأتي بيانه آخر البحث إن شاء الله. ثم أمره الله سبحانه بأن يستعيذ بالله من شرورهم، فقال: {فاستعذ بالله إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} أي: فالتجئ إليه من شرّهم، وكيدهم، وبغيهم عليك إنه السميع لأقوالهم البصير بأفعالهم لا تخفى عليه من ذلك خافية.
ثم بيّن سبحانه عظيم قدرته، فقال: {لَخَلْقُ * السموات والأرض *أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} أي: أعظم في النفوس، وأجلّ في الصدور، لعظم أجرامهما، واستقرارهما من غير عمد، وجريان الأفلاك بالكواكب من غير سبب، فكيف ينكرون البعث، وإحياء ما هو دونهما من كل وجه كما في قوله: {أَوَ لَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} [ياس: 81] قال أبو العالية: المعنى: لخلق السموات، والأرض أعظم من خلق الدجال حين عظمته اليهود.
وقال يحيى بن سلام: هو احتجاج على منكري البعث، أي: هما أكبر من إعادة خلق الناس {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} بعظيم قدرة الله، وأنه لا يعجزه شيء. ثم لما ذكر سبحانه الجدال بالباطل ذكر مثالاً للباطل، والحق، وأنهما لا يستويان، فقال: {وَمَا يَسْتَوِى الأعمى والبصير} أي: الذي يجادل بالباطل، والذي يجادل بالحق {والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسئ} أي: ولا يستوي المحسن بالإيمان، والعمل الصالح، والمسيء بالكفر، والمعاصي، وزيادة {لا} في {ولا المسيء} للتأكيد {قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ} قرأ الجمهور: {يتذكرون} بالتحتية على الغيبة، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم، لأن قبلها، وبعدها على الغيبة لا على الخطاب، وقرأ الكوفيون بالفوقية على الخطاب بطريقة الالتفات، أي: تذكراً قليلاً ما تتذكرون.
{إِنَّ الساعة لأَتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا} أي: لا شك في مجيئها، وحصولها {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} بذلك، ولا يصدقونه لقصور أفهامهم، وضعف عقولهم عن إدراك الحجة، والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث. ثم لما بيّن سبحانه أن قيام الساعة حق لا شك فيه، ولا شبهة، أرشد عباده إلى ما هو الوسيلة إلى السعادة في دار الخلود، فأمر رسوله: أن يحكي عنه ما أمره بإبلاغه، وهو: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قال أكثر المفسرين المعنى: وحدوني، واعبدوني أتقبل عبادتكم، وأغفر لكم. وقيل: المراد بالدعاء: السؤال بجلب النفع، ودفع الضر. قيل: الأوّل أولى؛ لأن الدعاء في أكثر استعمالات الكتاب العزيز هو: العبادة. قلت: بل الثاني أولى؛ لأن معنى الدعاء حقيقة، وشرعاً هو: الطلب، فإن استعمل في غير ذلك، فهو: مجاز، على أن الدعاء في نفسه باعتبار معناه الحقيقي هو: عبادة، بل مخ العبادة كما ورد بذلك الحديث الصحيح، فالله سبحانه قد أمر عباده بدعائه، ووعدهم بالإجابة، ووعده الحق، وما يبدّل القول لديه، ولا يخلف الميعاد.
ثم صرّح سبحانه بأن هذا الدعاء باعتبار معناه الحقيقي، وهو الطلب هو من عبادته، فقال: {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين} أي: ذليلين صاغرين، وهذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله، وفيه لطف بعباده عظيم، وإحسان إليهم جليل حيث توعد من ترك طلب الخير منه، واستدفاع الشرّ به بهذا الوعيد البالغ، وعاقبه بهذه العقوبة العظيمة، فيا عباد الله وجهوا رغباتكم، وعوّلوا في كل طلباتكم على من أمركم بتوجيهها إليه، وأرشدكم إلى التعويل عليه، وكفل لكم الإجابة به بإعطاء الطلبة، فهو الكريم المطلق الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم، وملكه الواسع ما يحتاجه من أمور الدنيا والدين.
قيل: وهذا الوعد بالإجابة مقيد بالمشيئة، أي: أستجب لكم إن شئت كقوله سبحانه: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء} [الأنعام: 41] الله، قرأ الجمهور: {سيدخلون} بفتح الياء، وضم الخاء مبنياً للفاعل، وقرأ ابن كثير، وابن محيصن، وورش، وأبو جعفر بضم الياء، وفتح الخاء مبنياً للمفعول.
ثم ذكر سبحانه بعض ما أنعم به على عباده، فقال: {الله الذى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} من الحركات في طلب الكسب لكونه جعله مظلماً بارداً تناسبه الراحة بالسكون، والنوم {والنهار مُبْصِراً} أي: مضيئاً، لتبصروا فيه حوائجكم، وتتصرفوا في طلب معايشكم {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} يتفضل عليهم بنعمه التي لا تحصى {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} النعم، ولا يعترفون بها، إما لجحودهم لها، وكفرهم بها كما هو شأن الكفار، أو لإغفالهم للنظر، وإهمالهم لما يجب من شكر المنعم، وهم: الجاهلون {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خالق كُلّ شَئ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} بيّن سبحانه في هذا كمال قدرته المقتضية لوجوب توحيده، قرأ الجمهور خالق بالرفع على أنه خبر بعد الخبر الأوّل عن المبتدأ، وقرأ زيد بن عليّ بنصبه على الاختصاص {فأنى تُؤْفَكُونَ} أي: فكيف تنقلبون عن عبادته، وتنصرفون عن توحيده؟ {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بئايات الله يَجْحَدُونَ} أي: مثل الإفك يؤفك الجاحدون لآيات الله المنكرون لتوحيده.
ثم ذكر لهم سبحانه نوعاً آخر من نعمه التي أنعم بها عليهم مع ما في ذلك من الدلالة على كمال قدرته، وتفرّده بالإلهية، فقال: {الله الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً والسماء بِنَاء} أي: موضع قرار فيها تحيون، وفيها تموتون {والسماء بِنَاء} أي: سقفاً قائماً ثابتاً. ثم بيّن بعض نعمه المتعلقة بأنفس العباد، فقال: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أي: خلقكم في أحسن صورة. قال الزجاج: خلقكم أحسن الحيوان كله. قرأ الجمهور: {صوركم} بضم الصاد، وقرأ الأعمش، وأبو رزين بكسرها. قال الجوهري: والصور بكسر الصاد لغة في الصور بضمها {وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات} أي: المستلذات {ذلكم} المنعوت بهذه النعوت الجليلة {الله رَبُّكُمْ فتبارك الله رَبُّ العالمين} أي: كثرة خيره، وبركته {هُوَ الحى لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أي: الباقي الذي لا يفنى المنفرد بالألوهية {فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي: الطاعة، والعبادة {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} قال الفراء: هو خبر، وفيه إضمار أمر، أي: احمدوه.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم. قال السيوطي: بسند صحيح عن أبي العالية قال: إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الدجال يكون منا في آخر الزمان، ويكون في أمره، فعظموا أمره، وقالوا: نصنع كذا، ونصنع كذا، فأنزل الله: {إِنَّ الذين يجادلون فِى ءايات الله بِغَيْرِ سلطان أتاهم إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم ببالغيه} قال: لا يبلغ الذي يقول: {فاستعذ بالله} فأمر نبيه أن يتعوّذ من فتنة الدجال لخلق السماوات، والأرض أكبر من خلق الدجال.
وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار في الآية قال: هم: اليهود نزلت فيهم فيما ينتظرونه من أمر الدجال.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ} قال: عظمة قريش.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، والبخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة» ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى} قال: عن دعائي {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين}. قال الترمذي: حسن صحيح.
وأخرج ابن مردويه، والخطيب عن البراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدعاء هو العبادة» وقال ربكم: {ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله: {ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قال: وحدوني أغفر لكم.
وأخرج الحاكم وصححه، عن جرير بن عبد الله في الآية قال: اعبدوني.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء الاستغفار» وأخرح ابن أبي شيبة، والحاكم، وأحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع الله يغضب عليه».
وأخرج أحمد، والحكيم الترمذي، وأبو يعلى، والطبراني، عن معاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينفع حذر من قدر، ولكن الدعاء ينفع مما نزل، ومما لم ينزل، فعليكم بالدعاء».
وأخرج الترمذي، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء مخّ العبادة».
وأخرج ابن المنذر، والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: أفضل العبادة الدعاء، وقرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية.
وأخرج البخاري في الأدب عن عائشة قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيّ العبادة أفضل؟ فقال: «دعاء المرء لنفسه».
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال: من قال: لا إله إلاّ الله، فليقل على أثرها: الحمد لله ربّ العالمين، وذلك قوله: {فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله ربّ العالمين}.

1 | 2 | 3